محمد محجوب هارون يكتب:
٤ مارس ٢٠٢٣
ما قصدتُ الخرطوم مغموما مثل ما هو حالي، يومي هذا، السبت الرابع من مارس ٢٠٢٣. قفلت راجعا إلى الخرطوم، في أحد أيام مايو ٢٠١٨، على عجَلٍ صباح اليوم التالي لوصولي إلى العاصمة البريطانية إذ أبلغني إخواني أنّ والدي أُدخل المشفى في الخرطوم في حالة معقّدة. بين الأمل و الرجاء ما كانت عودتي تلك بوقع عودتي اليوم، يا الله . . يا الله!
على غير ما تعوّد هاتفني يُوسف، ابني ، ابن أخي، السُلطان ماجد يُوسف يحيى، عند الثالثة صباح اليوم السبت و أنا خارج البلاد. ظننت أنّ رنين جرس الهاتف، لأوّل مرة، ضربٌ من ارتداد آلي لا فعلا مقصودا، رغم انزعاج زوجتي التي ظنّت أن أمرأ جللا ما ربّما ألحّ على يُوسف أن يراجعني تلك اللحظة ما بين هزيع الليل الأخير و انفلاق الفجر. ألحّ يُوسف معاودا الاتصال. تناولت جهاز الهاتف و ما خالجني ظنٌ أن لا أجد على الضفة الأُخرى يُوسف. فاجأني صوتُ ليُوسف ما ألفته منه، طوال عهد معرفتي له و تواصلي معه. يبكي يُوسف قائلا “يا دكتور أبوي مات”، بإنجليزية رصينة حزينة!! ما كان لي أن أستغرق في تكذيب ما سمعت. ناديت عليه بأن “إنّا لله و إنّا إليه راجعون”. ردّدتها مع تواصل صوت يُوسف المتهدج بالبكاء. أين يا يُوسف؟ في الخرطوم؟ لا في داكار في السينيغال، إذ ذهب في فريق عمل من وزارة الخارجية في مهمة رسمية، أفاد يُوسف. هل تأكدتُم؟ قال نعم جاءني الآن وكيل الخارجية السفير دفع الله، زميل المرحوم و صديقه، ناقلا إلي الخبر. و أمُك كيف هي؟ قال أمّي و محمد الفاتح (أخوه الأكبر) في القاهرة. قُلتُ تماسك يا يُوسف، أنا خارج البلاد و لكني عائد، بترتيب سابق، غدا إلى الخُرطوم، بإذن الله. هل أبُو عبيدة (شقيق ماجد) يعلم؟ نعم هو قادم في الطريق. يا الله . . يا الله!
راجعني السُلطان صباح الجمعة، يوم اصطفاه الله إلى رحابه الفسيح، برسالته التي ظل يبادر بها تحية و مباركة حينا من الدهر. كانت رسالته تحوي هذه العبارات، على غير العهد بكثير من لوحاته التي كان يرسلها على تطبيق “الواتساب” في جُمَعٍ ماضيات: الله أكبر . . لا إله إلا الله . . الحمدُ لله . . سُبحان الله . . الباقيات الصالحات.
لم تقرع رسالته تلك و لا مضامينها لدي جرس تنبيه و أنا غارق في بحر الغفلة!! رددتُ عليه بعبارتي: صباح النور يا سُلطان السلاطين. بارك الله لكم الأيّام و الأعمال و الأهل و الذريّة، و حفّكم بحفظه و عنايته. عبارات عابرات في زمان عابر! لم أعبأ بما قال أخي و خدن رُوحي، السُلطان ماجد. كاتبني مودّعا، ما خطر لي ببال أنّني سأحمل نعشه لا هُو حاملا نعشي كما ظننتُ و كنت أتمنّى. ما تصوّرت، بين يدي الغفلة و التيه في الحياة الدُنيا، أنّني أنا من ينعى رفيقي “المتمّم كيفي”! ما ظننتُ . . ما ظننتُ!! يا الله . . يا الله . .
ماجد ابن المرحوم يُوسف يحيى، ابن المرحومة الحاجة كلتُوم، نشأ و ترعرع في الفاشر، نبيها دون شك، فارسا لا يُشق له غُبار، عطاءا و مُروءة و عملا ينفع الناس. التقينا أوّل العهد في جامعة الخُرطوم، في منتصف النصف الأوّل من ثمانينات القرن العشرين. التحق بكلية القانون طالبا متفوقا من مدرسة دار فور الثانوية في الفاشر. كنت قبله طالبا في كلية الآداب بنحوٍ من عامين. لا أذكُر، على وجه اليقين، لحظة لقاءنا الأوّل. لكنّنا لم ننقطّع عن بعضنا و لم نختصم و لا تجافينا و عهدنا، معا، شطرٌ منه طويل، شرخُ صبا و عُنفوان شباب! السُلطان أخُوي . . أخُو الجميع . . “أخُو البنات”، لا فضيلة، شقيقته الكُبرى و شقيقاتها، و لا سهام رفيقة دربه و صاحبته في الملح و المُلاح، و الحارة و الباردة، جمّل الله بالصبر أيامهن. السُلطان “أخُو البنات” و “عشاء البايتات” و “مطمورة عشاء الجائعين”. يا الله . . ها أنت يا سُلطان ماضٍ مرفوع الرأس، موفور الكرامة للقاء ذي العزة و الجلال . .
قضي و صُحبةُ له، أيام جامعة الخُرطوم و لياليها و ما بعد جامعة الخُرطوم، بوقع قرع الطُبول، حيوية و عطاء. نفرٌ لا يُحصون! كان السُلطان من صُنع ذاته، استقلال رأي و موقف. كان عابرا للحُدود، بسمته الاستقلالي ذاك، أصدقاء عبر الحواجز و الجدران الفاصلة مثل “مخازن مليون صنف” في شارع الجمهورية في الخرطوم، من كل حدب ينسلون، أفكار مليون صنف، و تنظيمات عمل سياسي، و مهن و أعمار، نساءا و رجالا. ماجد لا تملك إلا أن تحبّه . . تلوذ بمحبته. روح دعابة لا حدّ لها، عاطفة تتدفق، و رأفة و مودة.
كانت أيام السُلطان في الجامعة مائجة بالعطاء الجزيل، نقابيا طُلابيا من أهل الفلاح، و شابا يافعا بمغناطيسية تذوّبُ خطوط كُنتُور الفضاء الاجتماعي، جاء من الفاشر فيما كانت دُور أُسر أصدقائه و رفاق مسيرته الذاخرة بالعطاء في الخُرطوم بحري و في أم درمان و في الخرطوم مضاجعه و مجالس أُنسه.
لم تكن الأكاديمية معتقله، و أحمالُ كلية القانون، في المطالعة و الحُضور، أحمالُها. كان السُلطانُ، إلى نشاطه النقابي، صحافيا مُثابرا فتحت له مبادآته في طرق أبواب الإعلام و المجتمع المغاليق للانخراط، معرفة و تفاعلا و صداقات، مع إخواننا و أخواتنا في جنوب السُودان، هُو و نفر من ذوي العطاء من رفاقه، و انفتح غربا عبر الحدُود إلى تشاد، و انفتح شرقا على حركة التحرر الإريترية ليخيط شباكا من العلاقات و التواصل، ما جعله ملاذا لأصدقاء لنا في حركات التحرير الإريترية، مُنذئذ إلى أن لقي الله. أهّل ذلك الوصل و تلك الهمة السُلطان لأداء أدوار تفرّد بها لمصلحة البلدان تلك، و مصلحة شعوبها في أزمنة خصومة و مِحَن.
سافرت، أنا مساعد تدريس في جامعة الخرطوم و السُلطان خريج حديث عهد بالحياة بعد الجامعة إلى إنجلترا في العام ١٩٨٧. استضافنا و أغدق علينا فضلا و أريحية، صديقنا الأستاذ أحمد كمال الدين، و أحمدُ قِصة أخرى في المروءة و العطاء. كانت تلك رحلة و رفقة و قصّة متعني الله خلالها بصُحبة (ماجد).
ماجد المثقف النبيه لم يعبر الحدود ليكون جسرا بين السودانيين و جوارهم فحسب، لكنه كان نقطة تلاق السُودانيين في الوقت ذاته. اندلعت حرب دار فور و هو دبلوماسي مرموق الرُتبة و الدور، غير أنّ ماجد السُوداني القادم من دار فور استبسل في أن يبقى جسرا ممدودا بين أبناء السودان و بناته، عبر خطوط الانقسام التي رسمتها الحرب الأهلية، من الدار فوريين و من بقية أقاليم السودان، و من بين مؤيدي الحركات الحاملة للسلاح و أولئك الذين التزموا موقفا مساندا للحُكم.
و حينما نادى مُنادِ الزواج كان قدر السُلطان أن تكون رفيقة دربه الأخت الفاضلة سهام صديق، أرملة الشهيد الدكتور أحمد قاسم. ما أظن اختيار ماجد سهاما محض تعلق بشريكة حياة. شرّفني السلطان بمرافقته إلى بورتسودان لخطبة سهام. كان ذلك موقفا آخر يكشف وجها من وجُوه السُلطان ماجد، حيث التقى الغرب السُوداني الأقصى بالشرق السوداني الأقصى. ما كان زواج ماجد بسهام، و زواج سهام بماجد، بناء أسرة على نحو ما هو شائع في فضاء الناس الاجتماعي، لكنهما أهديا نظامنا الاجتماعي نموذجا متفرّدا للبناء الاجتماعي القومي و الإنساني، حيث المودة و الرحمة ليستا خصيصتي زوجٍ و زوجة، لكنهما حاضنة دافئة للذرية، من بنات و أبناء ماجد و سهام، أشقاء و شقيقات كالبُنيان المرصوص.
روح السُلطان الإيجابية البنّاءة لم تدع له وقتا لاسترخاء أو هدر. كانت مواقع عمله محطات لبناء المواقف و لتشييد صُروح ما ينفع الناس. اجتهد السُلطان و هو بعدُ في محطة خارجية من محطات العمل الدبلوماسي و الحرب الأهلية في دارفور يستعر أوارُها في أن يطلق في الأثير إذاعة دار فور FM، و هي الصرح الذي وصفتُه يوما بأنه الإذاعة القومية التي تُولي اهتماما خاصا بدارفور. لا شك لدي أن تاريخا سيُكتب يوما ما ليكشف كيف أسهمت هذه الإذاعة المكافحة في كبح جماح دعاوى تقسيم السُودان من جهة الغرب كما حدث في ناحية جنوبه.
*
إنّا لله و إنّا إليه راجعون.
اللهم إنّا نشهد أن عبدك ماجد يوسُف يحيى كان يشهدُ ألا إله إلا الله، و أنّ محمدا رسولُ الله.
نسألك اللهم أن تتقبل عبدك ماجد في الصالحين المقربين.
اللهم إنّ ماجد جاء إلى رحابك الفسيح فقيرا إلى رحمتك، جاثياً بين يديك طالبا عفوك و رحمتك و. مغفرتك. نسألُك اللهم أن تعفو عنه، و تغفر له، و ترحمه إذ وسعت رحمتُك كل شيء
اللهم إنّ ماجد عبدُك و ابن عبدِك و ابن أمتِك، ناصيته بيدِك، ماضٍ فيه حُكمُك، عدلٌ فيه قضاءُك. اللهم إن كان مُحسنا فزِد في إحسانه، و إن كان مُسيئا فتجاوز عن سيئاته.
اللهم باعد بينه و بين خطاياه كما باعدت بين المشرق و المغرب، اللهم نقّه من خطاياه كما يُنقى الثوبُ الأبيضُ من الدنس، اللهم اغسله من خطاياه بالماء و الثلج و البَرَد.
الله لا تحرمنا أجره، و لا تفتنّا بعده.
إنّا لفراقك يا ماجد لمحزونون.
https://www.facebook.com/sudanytv
https://t.me/joinchat/2F84hiRu_tEzMDA8
https://twitter.com/SudanyTv
https://sudanytv.com/